بسم الله الرحمن الرحيم
من سلسلة الرد على شبه
العاذرين للمشركين [5]
احتج العاذرون بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
[ كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ
قَالَ لِبَنِيهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ
ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي
عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ
اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ
قَائِمٌ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ
فَغَفَرَ لَهُ ]
قالوا هذا شك في قدرة الله !
والشاك في القدرة كافر اتفاقاً !
لكنه لما كان جاهلاً عُذر بجهله في التوحيد فغفر له.
فقالوا لا بد قبل الحكم على المعين بالشرك أو الكفر من بلوغ الحجة
ورفع الجهل عنه :
وإن كان يستغيث بغير الله
ويذبح لغيره
وينذر لغيره
وإن كان يشرك بالله في الربوبية.
فهو معذرور لا يُحكم بكفره حتى يأتيه الرسول ويُبلِّغه
الجواب عن هذه الشبهة
من وجوه
الوجه الأولى: أن هذا " الرجل الذي أمر أهله بتحريقه كان موحداً
ليس من أهل الشرك فقد ثبت من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة
:
[ لمْ يعملْ خيراً قطُ إلا التوحيد ] فبطل الاحتجاج به على مسألة
النزاع. "
لأنّ النزاع بيننا في المشرك الذي يعبد غيره كيف يسمى موحداً وكذلك
المعطل الذي ينفي علو الله تعالى كيف يسمى مسلماً ، ونحو هؤلاء .
فــ " هذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمان هذا الرجل والأصول
كلها تعضدها والنظر يوجبها لأنه محال أن يغفر الله للذين يموتون وهم كفار لأن الله
عز و جل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به وقال { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ }
فمن لم ينته عن شركه ومات على كفر لم يك مغفورا له !
قال الله عز و جل { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } "
الوجه الثاني: أن الرجل لو سُلِّم كونه شاكاً فهو قد شك في أمر قد خفي
عليه وهي القدرة الخاصة على إعادته ( أي كمالها لا أصلها )
وهذا يختلف عن الواقع بالشرك الذي قامت الحجة عليه في كل زمان
ومكان ! .
فــ" الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه، وغفر الله له مع شكه في
صفة من صفات الرب سبحانه : فإنما غُفر له لعدم بلوغ الرسالة له !
كذا قال غير واحد.
١- قال ابن تيمية : من شك في صفة من صفات الرب ومثله لا يجهلها:
كفر
وإن كان مثله يجهلها: لم يكفر . "
٢- سئل ابن باز في شرح كشف الشبهات قال : حديث الرجل الذي قال إذا
مت حرقوني ؟
فقال : هذا جهل بعض السنن من الأمور الخفية من كمال القدرة جهلها
فعُذر حمله على ذلك خوف الله وجهل تمام القدرة فقال لأهله ما قال . ا.هــ
الوجه الثالث: أن يكون الرجل قال هذه الكلمة "وهو غير ضابط لنفسه
ولا قاصداً لمعناها ولكن للدهشة وشدة الخوف بحيث ذهب تدبره فيما يقول فصار كالغافل
والناسي"
فــ" شِدَّة الْخَوْف طَيَّرَتْ عَقْله فَلَا اِلْتَفَاتَ
إِلَى مَا يَقُول وَمَا يَفْعَل فإن فعله بمثابة يأخذ حُكْم فَعَلَ الْمَجْنُون
"
الوجه الرابع: قيل أن قول الرجل [ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي ] ليس
شكاً في قدرة الله إنما المراد " بقوله لئن قدر الله علي أي لئن كان قدر الله
عليه والتخفيف في هذه اللفظة والتشديد سواء في اللغة فقدر هنا عند هؤلاء من القدر الذي
هو الحكم وليس من باب القدرة والاستطاعة في شيء وهو مثل قوله -عز وجل- { وَذَا
النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } والمعنى
-والله أعلم- لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي ولم يغفر لي وجازاني على ذنوبي
ليكوننّ ما ذكر "
الوجه الخامس: أن الحديث لم يذكر شيئاً عن هذا الرجل من جهة الحكم إلا
أنه قد غفر له يوم القيامة والمرجئة يستدلون بهذا الحديث على الحكم الدنيوي !
وقد سبق الكلام على عدم التلازم بين الحكمين في الشبهة الأولى
الوجه السادس: أن الزهري –رحمه الله- لما قال : أَلاَ أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثَيْنِ
عَجِيبَيْنِ؟!
ثم روى هذا الحديث عن حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ،عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ثم روى بعده مباشرة عن حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِصَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ، قَالَ : [
دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا
،وَلاَ هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ ،حَتَّى مَاتَتْ ] .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : [ لِئَلاَّ يَتَّكِلَ رَجُلٌ وَلاَ يَيْأَسَ
رَجُلٌ] .
ولو كان الرجل وقع في الكفر بشكِّه في قدرة الله لما قال الزهري
فيه هذا
لأن الله تعالى يقول {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}
فالرجل لم يقع في الكفر خلافاً لمن قال بذلك !
{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ} !
الخلاصة:
١- أن الرجل كان موحداً ونزاعنا في الأصل ليس هنا
٢-أن الرجل لو سلمنا أنه شك في قدرة الله فإنه شك في نوع خاص من
أنواع القدرة لا في أصل القدرة.
٣- أن لفظة " لئن قدر الله عليّ " يُحتمل أن يكون الرجل
أراد بها التضيق لا الشك وهذا جائز في اللغة كقول الله حاكياً عن نبيه ذي النون{
وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه }
٤-يُحتمل أن يكون قالها وهو في سكرات الموت ولا يدري ما يقول فمثل
هذا لا يُكفر لأن حكمه كحكم المجنون
٥-لم يقل أحد من السلف أنه شك في قدرة الله ورواية الزهري لهذا
الحديث والحديث الآخر لا تدل أن الرجل وقع في الكفر بل تدل على خلاف ذلك.
٦- الحديث لم يتكلم عن حكمه في الدنيا وهذا هو موضوع بحثنا في
تكفير المشركين.
فلا حجة للعاذرين البتة بهذا الحديث.
والله أعلم.
( مستفاد من بعض البحوث ).
وصلى الله على نبينا محمد.