الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ثم أما بعد...
قال ابن الزاغوني –وليس هو بمرضي
الحال- في الإيضاح في أصول الدين : ذهبت
المعتزلة إلى أن المراد بالوجه الذات، فأما صفة زائدة على ذلك فلا . ا.هــ المراد
وعليه يكون الوجه مجازاً لا حقيقة
، والرد على هذا من وجوه :
الوجه الأول : أَنَّ الْمَجَازَ لَا
يُمْتَنَعُ نَفْيُهُ، فَعَلَى هَذَا أَلَّا يَمْتَنِعَ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لِلَّهِ
وَجْهٌ وَلَا حَقِيقَةَ لِوَجْهِهِ، وَهَذَا تَكْذِيبٌ صَرِيحٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ
عَنْ نَفْسِهِ
وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الوجه الثاني : أَنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ
الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ بِلَا مُوجِبٍ.
الوجه الثالث : أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ
فِي لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ الْأُمَمِ وَجْهُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى ذَاتِهِ وَنَفْسِهِ،
وَغَايَةُ مَا شَبَّهَ بِهِ الْمُعَطِّلُ وَجْهَ الرَّبِّ أَنْ قَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ:
وَجْهُ الْحَائِطِ، وَوَجْهُ الثَّوْبِ، وَوَجْهُ النَّهَارِ، وَوَجْهُ الْأَمْرِ
(فَيُقَالُ) لِهَذَا الْمُعَطِّلِ الْمُشَبِّهِ:
لَيْسَ الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ بِمَعْنَى الذَّاتِ
بَلْ هَذَا مُبْطِلٌ لِقَوْلِكَ !
فَإِنَّ وَجْهَ الْحَائِطِ أَحَدُ جَانِبَيْهِ
فَهُوَ مُقَابِلٌ لِدُبُرِهِ
وَكَمِثْلِ هَذَا وَجْهُ الْكَعْبَةِ
وَدُبُرُهَا
فَهُوَ وَجْهٌ حَقِيقَةً وَلَكِنَّهُ
بِحَسْبِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ
فَلَمَّا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ
بِنَاءً كَانَ وَجْهُهُ مِنْ جِنْسِهِ
وَكَذَلِكَ وَجْهُ الثَّوْبِ أَحَدُ
جَانِبَيْهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ
وَكَذَلِكَ وَجْهُ النَّهَارِ أَوَّلُهُ
وَلَا يُقَالُ لِجَمِيعِ النَّهَارِ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ [ وَجْهُ النَّهَارِ
أَوَّلُهُ ] ..
وَالْوَجْهُ فِي اللُّغَةِ مُسْتَقْبِلُ
كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يُوَاجَهُ
مِنْهُ
وَوَجْهُ الرَّأْيِ وَالْأَمْرِ مَا
يَظْهَرُ أَنَّهُ صَوَابُهُ
وَهُوَ فِي كُلِّ مَحَلٍّ بِحَسْبِ
مَا يُضَافُ إِلَيْهِ
فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى زَمَنٍ كَانَ
الْوَجْهُ زَمَنًا
وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى حَيَوَانٍ كَانَ
بِحَسْبِهِ
وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى ثَوْبٍ أَوْ حَائِطٍ
كَانَ بِحَسْبِهِ
وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَنْ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
كَانَ وَجْهُهُ تَعَالَى كَذَلِكَ.
الوجه الرابع : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [ مَنِ
اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِوَجْهِ اللَّهِ فَأَعْطُوهُ
]
وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا
الْجَنَّةَ ]
فَكَانَ طَاوُسٌ يَكْرَهُ أَنْ يَسْأَلَ
الْإِنْسَانُ بِوَجْهِ اللَّهِ
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ فَرَفَعَ إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ قَالَ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ،
فَقَالَ عُمَرُ [ لَقَدْ سَأَلْتَ
بِوَجْهِ اللَّهِ، فَلَمْ يَسْأَلْ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ]
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ [ وَيَحْكَ أَلَا سَأَلْتَ بِوَجْهِ اللَّهِ الْجَنَّةَ
...]
وَهَذِهِ الْآثَارُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ
السُّؤَالَ بِوَجْهِهِ أَبْلَغُ وَأَعْظَمُ مِنَ السُّؤَالِ بِهِ، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ لَا
يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا الْجَنَّةُ ]
فَدَلَّ
عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ هُوَ ذَاتُهُ.
الوجه الخامس : مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ
فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ
وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ
قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ
مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ] فَإِضَافَةُ السُّبُحَاتِ الَّتِي هِيَ الْجَلَالُ وَالنُّورُ
إِلَى الْوَجْهِ وَإِضَافَةُ الْبَصَرِ إِلَيْهِ تُبْطِلُ كُلَّ مَجَازٍ وَتُبَيِّنُ
أَنَّ الْمُرَادَ وَجْهُهُ.
الوجه السادس : مَا قَالَهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ [ لَيْسَ عِنْدَ
رَبِّكُمْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ
]
وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ وَأَعُوذُ
بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ] فَأَضَافَ النُّورَ إِلَى الْوَجْهِ
وَالْوَجْهَ إِلَى الذَّاتِ وَاسْتَعَاذَ
بِنُورِ الْوَجْهِ الْكَرِيمِ
فَعُلِمَ أَنَّ نُورَهُ صِفَةٌ لَهُ
كَمَا أَنَّ الْوَجْهَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ
الوجه السابع : أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالْأَئِمَّةِ ، وَأَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ
مُتَّفِقُونَ عَلَى إثبات الوَجْهَ لرَبِّهِمْ سبحانه كما
قال ابن خزيمة -رحمه الله-:
وَجَمِيع عُلَمَائِنَا ... يثبتون لله عَزَّ وَجَلَّ مَا
أثْبته اللَّه لنَفسِهِ من غير تَشْبِيه وَجه الْخَالِق بِوَجْه أحد من المخلوقين عز
رَبنَا وَجل عَن شبه المخلوقين، وَجل عَن مقَالَة المعطلين ... ا.هــ المراد
الوجه الثامن : فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ
عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ
قَالَ [ أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ
وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ]
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَرَنَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ
بَيْنَ اسْتِعَاذَتِهِ بِالذَّاتِ
وَبَيْنَ اسْتِعَاذَتِهِ بِالْوَجْهِ
الْكَرِيمِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِ
مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الذَّاتُ نَفْسُهَا ! .
وهذه الوجوه كلها –إلا السابع- منقولة
من الصواعق لابن القيم بتصرف واختصار ، والله
ولي التوفيق .
منقول