الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ثم أما بعد...
قال ابن القيم في مختصر الصواعق ص 429 : النُّورَ صِفَةُ الْكَمَالِ، وَضِدُّهُ صِفَةُ نَقْصٍ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ نُورًا، وَسَمَّى كِتَابَهُ نُورًا
وَجَعَلَ لِأَوْلِيَائِهِ النُّورَ وَلِأَعْدَائِهِ الظُّلْمَةَ فَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات}
وَيَجِيءُ الْأَنْبِيَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأُمَمُهُمْ لِكُلِّ نَبِيٍّ نُورَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ نُورٌ وَتَجِيءُ هَذِهِ الْأُمَّةُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ نُورَانِ وَلِنَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ نُورٌ، وَلَمَّا كَانَتْ مَادَّةُ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي خُلِقُوا مِنْهَا نُورًا، كَانُوا بِالْمَحَلِّ الَّذِي أَحَلَّهُمُ اللَّهُ بِهِ وَكَانُوا خَيْرًا مَحْضًا ... ا.هــ المراد
والإستدلال بهذا القياس في باب الصفات استدلالٌ أثري دل عليه الكتاب الكريم ومنهج سلفنا الصالح
قال ابن تيمية في العقيدة الأصفهانية ص117 : الله سبحانه وتعالى يستعمل في حقه قياس الأولى كما جاء بذلك القرآن
وهو الطريق التي يسلكها السلف والأئمة كأحمد وغيره من الأئمة فكل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به
وكل نقص ينزه عنه مخلوق فالخالق أولى أن ينزه عنه
كما قال تعالى {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم}
وقال تعالى {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم}
وذلك لأن صفات الكمال أمور وجودية
أو أمور سلبية مستلزمة لأمور وجودية
كقوله تعالى {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم}
فنفي السنة والنوم استلزم كمال صفة الحياة والقيومية
وكذلك قوله {وما ربك بظلام للعبيد} استلزم ثبوت العدل ...
وأما العدم المحض فلا كمال فيه
وإذا كان كذلك فكل كمال لا نقص فيه بوجه ثبت للمخلوق فالخالق أحق به من وجهين :
أحدهما : أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم أكمل من المخلوق القابل للعدم المحدث المربوب
الثاني : أن كل كمال فيه فإنما استفاده من ربه وخالقه فإذا كان هو مبدعا للكمال وخالقا له كان من المعلوم بالاضطرار أن معطي الكمال وخالقه ومبدعه أولى بأن يكون متصفا به من المستفيد المبدع المعطي . ا. هــ المراد
وقال في بيان تلبيس الجهمية [5-424] : مثل هذا القياس العقلي والمثل المضروب هو الذي يستعمل في باب الربوبية في كتاب الله تعالى في باب التنزيه عن الشركاء والأولاد وغير ذلك
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه قال نعم قال فاقضوا الله فالله أحق بالقضاء "
وهذا المعنى جاء في أحاديث متعددة صحيحة فقبول الاستيفاء من الإنسان عن غيره لما كان من باب العدل والإحسان كان الله أحق بالعدل والإحسان من العباد وكان الذي يقضي عن غيره حق المخلوق هو أحق بأن يقضي عنه حق الخالق من جهتين :
من جهة أن حق الخالق أعظم
ومن جهة أنه أعدل وأرحم
ونظير ذلك في جانب النفي ما رواه الإمام أحمد في مسنده أنهم لما فاتتهم الصلاة سألوه هل يقضونها مرتين فقال ( أينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم ) يقول إنه نهى عن الربا لما فيه من الظلم وهو المعاوضة عن الشيء بما هو أكبر منه في الديون الثابتة في الذمة بعوض أو غيره وهو أحق بتنزيهه عن الظلم من عباده ...
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما رأى امرأة من السبي لما رأت طفلاً أخذته فأرضعته ( أترون هذه طارحة ولدها في النار قالوا لا يا رسول الله قال للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها ) فيه قياس الأولى لكن من باب التصور
وقد يستعمل من باب التصديق بأن يقال إذا كانت هذه لكونها كانت سبباً في وجود هذا فيها هذه الرحمة فالرب الخالق لكل شيء ووجود كل شيء منه أحق بأن يكون رحيماً بذلك ومن باب الأمر قول ابن عمر لغلامه نافع وقد رآه يصلي في ثياب ناقصة فقال ( أرأيت لو أرسلتك في حاجة أكنت تذهب هكذا فقال لا فقال فالله أحق من تُزُيِّنَ له من الناس ( ... ا. هــ المراد
والمقصود : أن الاستدلال بقياس الأولى قد دل عليه القرآن والسنة وأقوال السلف والأئمة رحمهم الله
وأما ما ورد عن بعض العلماء من نفي القياس في العقائد فمرادهم بذلك هو "قياس الشمول" و "قياس التمثيل"
قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية [2-347] : إن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل وبين بالأقيسة العقلية المقبولة بالعقل الصريح من المطالب الإلهية والمقاصد الربانية ما لم تصل إليه آراء هؤلاء المتكلفين في المسائل والوسائل في الأحكام والدلائل كما قد تكلمنا على ذلك في غير موضع .
والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع
ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه
فإن الله سبحانه ليس مثلاً لغيره ولا مساويًا له أصلاً
بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله
وهو من الشرك والعدل بالله وجعل الند لله وجعل غيره له كفوًا وسميًّا . ا.هــ المراد
منقول